خصوصية تجربة الإرشاد الاجتماعي في الجمهورية العربية السورية.



  تشكل عملية تأهيل المرشدين النفسيين والاجتماعيين ضرورة أساسية من ضرورات نجاح تجربة الإرشاد في الجمهورية العربية السورية، ذلك أن المرشد يحظى بالموقع الأكثر أهمية في هذه التجربة، ومن خلاله تتحقق أهدافها، أو تظهر أمامها العقبات والعراقيل المختلفة التي تحول دون الأهداف العملية المتوخاة منها، غير أن المشكلة في عملية تأهيل المرشدين وتدريبهم تكتسب طابعاً مزدوجاً في آن واحد، فهم من جهة أولى لم يتلقوا في سياق تأهيلهم الجامعي مهارات عملية تطبيقية كافية تجعلهم قادرين على القيام بمهماتهم الإرشادية بالشكل المطلوب، وبالشكل الذي يكافئ الحاجة إليهم، فدراستهم الجامعية كانت في الجزء الكبير منها نظرية وتتناول قضايا أوسع بكثير من قضايا الإرشاد، ولهذا فهم بحاجة ماسة إلى عمليات التدريب والتأهيل التي تجعلهم أقرب إلى الواقع العملي، وتساعدهم في فهم طبيعة الأعمال المنوطة بهم.
    ومن الناحية الثانية، تعد تجربة الإرشاد حديثة العهد في الجمهورية العربية السورية، ولم تأخذ بتطبيق أي نموذج يمكن القول أنه متوافق تماماً مع شروط الواقع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي الذي تشهده سورية، وبخاصة أن هذا الواقع يوصف بأن وحدته الثقافية والحضارية تتجلى بمكونات اجتماعية واقتصادية عديدة شديدة التنوع إلى الحد الذي يمكن أن تصبح فيه مصدراً للتباين والتناقض إذا ما وجهت بغير اتجاهها التكاملي.
    وعندما أخذ المشرع في الجمهورية العربية السورية يقر تجربة الإرشاد بجانبيها النفسي والاجتماعي، وهو الأمر الذي يميز تجربة الإرشاد في سورية بالموازنة مع ما هي عليه في دول عربية أخرى، ففي ذلك دلالة على أن قيمة العملية التربوية لا تأتي من ذاتها وطبيعتها، إنما من وظيفتها الاجتماعية والثقافية والحضارية، وهو أمر لا يمكن تحققه في سياق الرؤية الأحادية لها، فالعملية التربوية عملية اجتماعية ثقافية متكاملة، وعندما تفقد أبعادها هذه تغدو عملية تعليمية وليس أكثر، وعندئذ يمكن أن تكون صالحة لكل الأفراد في كل المجتمعات، ولكنها لا تعود عليهم إلا بفوائد وقتية وضيقة جداً.
     وفي ضوء هذا التصور تكمن أهمية البحث عن نموذج متكامل للعملية الإرشادية تتحقق من خلاله الأهداف التي رمى إليها المشرع عندما جعلها معنية ببناء الإنسان من حيث كفاءاته ومهاراته التي تؤهله لأن يمارس الفعل الاجتماعي بجدارة وكفاءة، وهو ما يقدمه الإرشاد النفسي، ومن حيث تأهيله الاجتماعي بما يتوافق مع بنى المجتمع وتنظيماته بالشكل الذي تجعل منه عضواً فاعلاً ونشطاً.
      ولما كانت التجربة تفتقر في الوقت الراهن إلى نموذج يتحقق من خلاله المطلبان المشار إليهما،  فإن من مهام البحث العلمي في مجال الإرشاد، وفي هذه المرحلة بالذات، البحث عن الأسس الاجتماعية والتنظيمية لبناء هذا النموذج بناء على خصوصية الواقع الاقتصادي والاجتماعي الذي يميز الجمهورية العربية السورية عامة، ويصف كل مجتمع محلي في إطار المجتمع بصورة خاصة.
     إن العمل على تطبيق أي نموذج للعملية الإرشادية مستوحى من تجارب أخرى لا يخلو من مخاطر تفقده من مضمونه الاجتماعية، فالعملية الإرشادية ليست عملية ميكانيكية يمكن أن تأخذ شكلاً واحداً في المجتمعات المختلفة، ولهذا فإن تطبيقها كما هي في مصر على سبيل المثال، أو كما هي في الأردن، أو دول من الخليج العربي، يحمل في ثناياه عوامل فشله، ذلك أنه بالإضافة إلى أن طبيعة المشكلات التي تجابه الطلبة، والمعلمين، والتحديات الثقافية تختلف من مجتمع إلى آخر، فإن للمجتمع خصوصياته الثقافية التي تجعله يتفاعل مع هذه التحديات على نحو مختلف.
     غير أن التنوع الملحوظ في بنية المجتمعات المحلية يجسد في الوقت نفسه وحدة الثقافة التي تميز الهوية القومية بصورة عامة عن تلك التي يمكن تلمسها في المجتمعات الأخرى، ولهذا فإن للعملية التربوية بعداً مزدوجاً، ينحى الأول نحو تنمية ملكات الفرد وقدراته ومهاراته، وينحى الثاني نحو البناء الاجتماعي والثقافي في شخصية الفرد، وقد وجد المشرع السوري كما مر بيانه أن العملية الإرشادية ذات بعد مزدوج أيضاً تتوافق فيه مع العملية التربوية، وترتبط بها ارتباطاً وثيقاً، ولا تنفصل عنها مطلقاً.
      إن تجربة الإرشاد النفسي والاجتماعي في الجمهورية العربية السورية تعد خطوة أساسية في مسيرة التطوير والتحديث التي تشهدها سورية المعاصرة، غير أن ما ينطوي عليها من نتائج قد يجعلها في الموقع الذي يراد لها بالفعل، وقد يجعلها على الطرف النقيض من ذلك، إذا لم تتوفر لها الشروط الموضوعية المناسبة، فمن جهة أولى يمكن للعملية الإرشادية أن تسهم بجدارة في تحسين جودة التعليم، وتحسين مستوى العملية التربوية برمتها، فمن شأن هذه العملية أن تسهم في تنمية مهارات الأبناء وتجعلهم أقدر على ممارسة الفعل الاجتماعي واتخاذ القرار، في الوقت الذي تنمي فيهم أيضا مشاعر الالتئام والتضافر الاجتماعيين حتى يغدو أبناء الوطن كلاً متكاملاً، وبذلك تكون التجربة خطوة رائدة في مسيرة التطوير والتحديث.
      وعلى طرف آخر فإن لهذه العملية شروطاً لا بد من توفرها، وتبذل فيها طاقات وإمكانيات كبيرة، وقد استقطبت الدولة لهذا الغرض أعداداً كبيرة من المرشدين في المجالين الاجتماعي والنفسي، غير أن هذه الطاقات تفقد فعالياتها عندما لا تتوفر شروط التجربة، وعوامل نجاحها، ويمكن عندئذ أن تتحول التجربة إلى نقيضها، وتصبح عبئاً ثقيلاً على العملية التربوية، وتستنـزف أكثر مما تنتج.
        وتأسيساً على ذلك يأخذ البحث بتحليل المشكلات الأساسية التي تجابه طلبة التعليم الأساسي في مدينة دمشق، وتحول دون تحقيق العملية التربوية لأهدافها التعليمية والاجتماعية بغية العمل على وضع أسس عملية لنموذج تطبيقي في الإرشاد يناسب خصوصية المجتمع العربي في سورية في إطار وحدة الثقافة العربية التي تتماثل فيها معايير السلوك ومحدداته بصورة عامة، وفي الوقت الذي تؤخذ فيه بالاعتبار خصائص التجربة في الدول العربية الأخرى، دون أن يكون في ذلك نقلاً آلياً لها.
        وتأخذ الدراسة في معالجتها لمواضيعها ستة فصول أساسية، يتناول أولها فلسفة الإرشاد النفسي والاجتماعي في الجمهورية العربية السورية، وضروراته، ومتطلباته، ذلك أن أي تجربة اجتماعية تربوية تفقد مضمونها الاجتماعي عندما لا تقوم على أساس رؤية فلسفية ثقافية حضارية، فالعملية الإرشادية جزء لا يتجزأ من العملية التربوية، وهي شكل من أشكال العمل الساعية إلى تحقيق جودة التعليم والعملية التربوية على نحو أفضل، وعندما تخلو هذه التجربة من بعدها الفلسفي، فلا شك في تحولها إلى عبئ جيد يضاف إلى المؤسسات التعليمية دون جدوى مكافئة، فالتحولات الاقتصادية والاجتماعية الواسعة التي تشهدها سورية في الظروف الراهنة تجعل الضرورة ملحة لأن تأخذ العملية التربوية موقعها الصحيح في عمليات التغير الواسعة.
      ويتناول الفصل الثاني بعضاً من التعريفات المتداولة للعملية الإرشادية، وبخاصة في تجارب دول عربية مختارة، ويظهر أن هذه التجارب ما زالت حتى الآن لا تميز بدقة بين الإرشاد النفسي، والإرشاد الاجتماعي، ولهذا فإن قسماً كبيراً من هذه التجارب يفتقر إلى البعد الاجتماعي والثقافي والحضاري، ويأخذ بالنظر إلى العملية الإرشادية وكأنها معزولة عن سياقها الثقافي، في حين يؤكد المشرع السوري على أهمية البعد الاجتماعي عندما ميز بدقة بين الإرشادين.
    أما الفصل الثالث فيشرح جملة من الخطوات المنهجية الخاصة بالدراسة الميدانية، فيتناول أهمية موضوع البحث، ومسوِّغاته العلمية والعملية، وأهدافه وفرضياته، والطرق المعتمد في قياس حجم مشكلات تلاميذ مرحلة التعليم الأساسي، بالإضافة إلى شرح خطوات الدراسة الاستطلاعية والنتائج التي توصلت إليها، والأسس المعتمدة في تصميم أداة البحث بشكلها النهائي.
     ويشرح الفصل الرابع نتائج البحث فيما يتعلق بأكثر مشكلات التلاميذ انتشاراً في صفوفهم، ويأخذ بترتيب المشكلات على مستوى مجموعات المشاكل، كالمشاكل الأسرية، ومشكلات الأقران ورفاق السوء، والمشكلات النفسية، ومشكلات عدم التكيف وغيرها..، ومن ثم يأخذ بترتيب المشكلات بحسب حجمها ضمن كل مجموعة من المجموعات المدروسة.
     ويقدم الفصل الخامس شرحا لنتائج الجولات الميدانية التي قام بها فريق البحث بغية تحليل المشكلات التي تعترض آليات عمل الإرشاد في مدارس التعليم الأساسي في مدينة دمشق، ويظهر المواضيع الأساسية التي ينبغي أخذها بالاعتبار في برامج تأهيل المرشدين النفسيين والاجتماعيين، وبخاصة ما يتعلق منها بمهارات العملية الإرشادية نفسها.
     ويأخذ الفصل السادس بتحليل نتائج الدراسة وتفسيرها من الناحية النظرية والعلمية، ثم يأخذ الفصل بشرح مكونات برنامج تأهيل المرشدين المقترح بناء على نتائج البحث الكمية والنوعية، من حيث المواضيع التي ينبغي أن تضمها عمليات التأهيل والتدريب، ومن حيث آليات عمل المرشد، ومن حيث توصيف الدورات المقترحة.
ومشروع الدراسة إن هو في حقيقة الأمر إلا خطوة أولى نأمل أن تتبعها خطوات متممة حتى يصبح لها معنى، فليس من العلم في شيء أن يزداد الاهتمام بتأهيل المرشدين الذين يشكلون الأساس في العملية الإرشادية بمعزل عن اعتبارين أساسيين، الاعتبار الأول الصلة مع الواقع الاجتماعي للعملية التربوية برمتها، والاعتبار يخص المرشدين أنفسهم، وإذا كانت وزارة التربية قد بدأت مشروع الألف ميل بخطوة، فلا بد أن تتبعها الخطوات اللاحقة، حتى لا تفقد هذه الخطوة مضمونها، وتصبح عاملاً جديداً من العوامل التي تربك العملية التربوية والتعليمية في سورية.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق