الاتجاهات الاجتماعية نحو ظاهرةالثأر والقضايا المرتبطة بها.

تعد مشكلة الثأر والقضايا المرتبطة بها واحدة من المشكلات النوعية التي لا يمكن تقييم أهميتها في المجتمع بالرجوع إلى نسبة تكرارها ودرجة انتشارها بقدر ما تعود إلى ما تثيره من رأي عام في الحياة الاجتماعية وما تسببه من اضطراب وقلق في حياة الناس. شأنها في ذلك شأن الحوادث الطارئة في حياة المجتمع والتي يمكن أن تنتج عنها مشكلات مادية واجتماعية ومعنوية تفوق في حجمها حجم الحدث نفسه، لما لها من تبعات ولواحق يصعب حصرها أو تحديدها.
غير أن ظاهرة الثأر لا يمكن أن تصبح واقعاً قائماً لمجرد أن أحد الأشخاص أقدم على جريمة القتل بالخطأ أو بالقصد ما لم تكن البنية الاجتماعية مهيأة لأن تنتشر فيها هذه الظاهرة على أساس جملة الاتجاهات والقيم السائدة في المجتمع. ولهذا فإن غياب انتشار الظاهرة من الناحية الإحصائية أو ضعف هذا الانتشار لا ينطوي على دلالة إيجابية توحي بأن المجتمع معافى من هذه الظاهرة ومشكلاتها وما يترتب عليها من نتائج. ذلك أن ضعف الانتشار، أو غيابه يعود إلى غياب العوامل المباشرة التي يمكن أن تؤدي إلى المشاجرات والتناقضات التي تنهي إلى جريمة القتل، وسرعان ما تترتب على ذلك سلسلة طويلة من الفعل ورد الفعل، يستغرق كل منها زمناً طويلاً، وتذهب فيه ضحايا كثيرة وأبرياء لا علاقة لهم بما كان يجنيه آباؤهم.
ولهذا فإن التحليل العلمي لظاهرة الثأر لا يكمن في معرفة الحجم الفعلي للظاهرة من خلال رصد تكراراتها، ونسب تواترها في المجتمع، إنما بتحليل اتجاهات أبناء المجتمع أنفسهم نحو الظاهرة، وميولهم نحو التسامح فيها أو التشدد، ومقدار إعطائهم صفة الشرعية للمطالبة بالثأر، الأمر الذي يمكن الباحث من معرفة الأساس الاجتماعي للظاهرة ودرجة احتمالات وقوعها إذا ما حدثت جريمة قتل في المجتمع.
وتزداد أهمية دراسة الظاهرة في المجتمعات التي تتصف بالتغير السريع على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ذلك أن المجتمع يخضع لعملية تحول واسعة من مجتمع تقليدي يخضع لمعايير اجتماعية وضوابط للسلوك تحدد ما هو مرغوب به، وما هو مرهوب، وما هو مسموح وما هو ممنوع، تعد القبيلة فيه مصدر السلطة والتشريع، إلى مجتمع حديث يخضع لمعايير اجتماعية مختلفة تماماً، وتعد الدولة فيه مصدراً أساسياً للسلطة والتشريع واتخاذ القرار.
وفي مرحلة التحول الاجتماعي تنتشر في المجتمع المحلي المعايير الاجتماعية التقليدية التي تعطي للثأر قيمة اجتماعية كبيرة، وخاصة إذا ما تعرضت الأسرة لعدوان ينتهي بموت واحد من أفرادها إثر مشاجرة أو خلاف على الأرض أو الثروة، أو المياه أو غيرها. وفي هذا المجتمع أيضاً تنتشر جملة من القيم والمعايير الاجتماعية الحديثة التي تجعل من الدولة مصدر السلطة والتشريع، وتجعل من الثأر ظاهرة عدوانية لا بد من الحد تقويض دعائمها والحد من انتشارها.
والمجتمع في هذه الظروف لا يمكن عدّه من المجتمعات التقليدية لكونه يأخذ بالانفتاح الاجتماعي، وتنتشر فيه مجموعة كبيرة من العادات والتقاليد الاجتماعي والمعايير التي يمكن وصفها بأنها توافق المجتمع الحديث وتؤكد عليه. في الوقت الذي تنتشر فيه أيضا مجموعة كبيرة من القيم التقليدية التي تحاول شد المجتمع إلى المرحلة التقليدية وبنيانه على أساسها. فالمجتمع المحلي في هذه الحالة ليس من المجتمعات التقليدية، ولا هو من المجتمعات الحديثة التي تنطبق عليها خصائصه ومكوناته. وفي هذه الأشكال من التنظيمات الاجتماعية تزداد المخاطر المترتبة على ظاهرة الثأر لما تسببه من مشكلات في الحياة الاجتماعية، وما تسببه من اضطراب في العلاقات الاجتماعية بين الأفراد والأسر والجماعات.
ويعد مجتمع جبل الحص من المجتمعات الخاضعة لعملية التحول الاجتماعي، فلا هو من المجتمعات الحديثة التي تجعل من الدول مصدر السلطة على نحو كامل، فما زالت قيم الانتماء للقرابة، والعلاقات الاجتماعية أكثر ميلاً إلى التقليدية منها إلى الحداثة. ولا هو من المجتمع التقليدي أيضاً الذي تنفرد فيه القيم العشائرية والقبلية وتؤثر في السلوك الاجتماعي على نحو قوي وواضح. ولهذا تعد مشكلة الثأر فيه من المشكلات الأساسية التي تتصف بأنها من المشكلات الكامنة التي يمكن أن تظهر فجأة إذا ما توفرت العوامل المؤدية إليها.

يعالج البحث موضوعاته الأساسية في أربعة فصول أساسية، يتناول أولها الأسس المنهجية والخطوات العملية للدراسة وخصائص المجتمع المدروس، ويبحث الثاني في اتجاهات عينة الدراسة نحو مشكلة الثأر والقضايا المرتبطة بها والعوامل المؤثرة في هذه الاتجاهات تبعاً لفرضيات البحث، ويعالج الفصل الثالث المسائل المرتبطة بالتعرض لحادثة الثأر والعوامل المؤدية إليها وكيفية معالجتها. ويقدم الفصل الرابع والأخير جملة النتائج والتوصيات التي يمكن أن تسهم في معالجة مشكلات الثأر في المجتمع المدروس.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق